د.زكرياء مقيدش
أثبتت التجربة التاريخية، أن الأمم والدول التي نشهدها اليوم تحظى بمكانة محورية في البيئة الدولية أو الدول الصاعدة المنافسة لها، لم تكن في السابق -وليس ببعيد- إلا أمما هشة ضعيفة تعيش أزمات داخلية معقدة مركبة، وفوضى مست كل البنى المكونة لمنظومتها المجتمعية، جعلتها تنزوي بعيدا عن مسار التاريخ، فالصين التي شهدت أكبر كارثة إنسانية مرت عليها، والمتمثلة في المجاعة الكبرى مابين عامين 1958-1962، نتيجة السياسات القمعية والاقتصادية المتبعة في عهد “ماوتسي تونغ”، والتي ذهب ضحيتهما أكثر من 36 مليون صيني، جعلت من هذه المأساة مبعثا لمشروعها الحضاري التنموي، ودافعا لإعادة النظر في مشروعها المجتمعي الذي كان سائدا، وبالشكل الذي جعلها تخرج من غياهب التخلف والفوضى والانقسام إلى عالم التقدم والتفوق التكنولوجي والاقتصادي.
والأمثلة في هذا السياق كثيرة ومتعددة، فالواقع الذي نعيشه اليوم والمحمل بشتى التحديات الداخلية والخارجية، وكذا الجنون وغياب الرشادة الذي أصبح عليه النظام الدولي القائم، ومع جنوح القوى الفاعلة فيه وبالتحديد المهيمنة إلى المغالاة في اتباع سياسات الابتزاز والتهديد المباشر للقوى المناوئة، والعمل على تقويض كل مقومات المنتظم الدولي وتعطيله، وبالشكل الذي يسمح لها بإعادة صياغة الخارطة الجيوسياسية بما يخدمها ويعزز مكامن هيمنتها، فهذه التحولات كلها تنبئ بضرورة الاستعداد لهذه اللحظة الانتقالية التي يمر بها النظام الدولي القائم، وفي الوقت الذي تزيد فيه الهزات الارتدادية الناجمة عن هذا الوضع، نصبح غير بعيدين عن نتائجها وآثارها.
بناء على ما سبق، لا نسعى هنا إلى التهويل أو نشر البلبلة، وإنما من الضروري أن نواجه الواقع بعقلانية وواقعية، فما تعيشه الجزائر اليوم من تكالب لقوى الشر ضدها، مستهدفة بذلك أمنها واستقرارها الداخلي وسلامة ووحدة أراضيها، وكذا الوضع غير المستقر الذي يعيشه النظام الدولي، يصبح لزاما علينا اليوم أن نستغل هذا الوضع لإعادة صياغة مشروع مجتمعي تنموي ونهضوي جاد، يؤسس وفق رؤية رشيدة تمس كل مقومات المنظومة المجتمعية، وذلك عبر بوابة مشروع قانون التعبئة العامة، الذي يجب أن يدرس بعناية شديدة، بحيث يؤسس لمشروع حقيقي يبنى وفق استراتيجية ورؤية بعيدة المدى يمس كل مقومات المنظومة المجتمعية، وبالشكل الذي تتجند فيه كل الفعاليات المجتمعية لخدمة هذا المشروع.
وكما أن هذا الأخير، يمثل فرصة حقيقية لترسيخ مقومات الهوية الوطنية، بحيث تمنع ظهور أي دعوى من الدعوات المشبوهة لضرب الوحدة الوطنية، أو استغلال وتحريف أي مناقشة جادة لقضايا الهوية الوطنية، وكذا نعمل من خلال قوانين التعبئة العامة، القضاء على الدعوات الأيديولوجية التي تمس بمبادئ ومقومات الوحدة الوطنية، وتؤسس حقيقة لمشروع مجتمعي جزائري حقيقي، تعمل تحت ظله وفي كنفه كل الفواعل المجتمعية وبغض النظر عن خلفيتها الثقافية والأيديولوجية، وأين لا صوت بداخله يعلو على صوت الوطن والمصلحة القومية والوطنية، ولا مسعى فيه إلا المسعى الذي يخدم الأمة الجزائرية.