الصحفي ….لؤي صوالحه نابلس…. فلسطين
على مدار أكثر من عام، يعيش قطاع غزة تحت وطأة حرب إبادة ممنهجة، تشنها آلة الاحتلال الإسرائيلي بلا رحمة. مشاهد الأطفال الجرحى، ودموع الأمهات الثكالى، وأكوام الركام التي تخفي تحتها أحلام أجيال كاملة، أصبحت مشهداً مألوفاً في نشرات الأخبار اليومية. لكن هذا الاعتياد الظاهري على هذه الصور البشعة يثير سؤالاً مهماً: هل حقاً اعتاد العالم على هذه المآسي حتى باتت تمر مرور الكرام، أم أن هناك أسباباً أعمق وراء هذا التبلد الظاهري في الضمير الإنساني؟
لا يمكن فصل هذا الاعتياد عما فرضته القوى الكبرى والنظام الإعلامي العالمي. في ظل هيمنة الخطاب الصهيوني على السردية الإعلامية الدولية، تم تشويه القضية الفلسطينية وتجريدها من بعدها الإنساني. الفلسطيني في الإعلام الغربي ليس إنساناً يعاني الاحتلال والاضطهاد، بل رقماً يُضاف إلى قوائم الضحايا. هذه النظرة الرقمية الباردة تُجرد المأساة من بعدها الأخلاقي والإنساني، وتحوّل الجرائم اليومية إلى مجرد “أحداث” تخضع لتحليلات سياسية جافة، دون أن تثير التعاطف أو التحرك.
على الجانب العربي، تراجع الاهتمام الرسمي بالقضية الفلسطينية تحت وطأة موجة التطبيع التي اجتاحت المنطقة. الأنظمة التي كانت تدّعي يوماً ما الدفاع عن فلسطين أصبحت تعتبر القضية عبئاً يجب التخلص منه، تارة عبر صفقات سياسية تخدم الاحتلال، وتارة أخرى عبر تهميش النضال الفلسطيني في الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي. لكن هذا التراجع الرسمي لا يعكس موقف الشعوب، التي لا تزال ترى في فلسطين قضية مركزية، رغم كل محاولات التشويه والإحباط.
المشهد في قطاع غزة اليوم هو نتيجة مباشرة لعقود من الاستعمار والاحتلال، لكنه أيضاً نتيجة لفشل النظام الدولي في القيام بواجبه الأخلاقي والقانوني. الأمم المتحدة، التي تأسست على مبدأ الدفاع عن حقوق الإنسان، تقف عاجزة أمام واحدة من أطول وأبشع حالات الاحتلال في العصر الحديث. القرارات الأممية التي تدين الاحتلال وتؤكد حقوق الفلسطينيين تُجمع منذ عقود، لكنها تبقى حبراً على ورق، لأن القوى الكبرى ترفض تنفيذها، حفاظاً على مصالحها السياسية والاقتصادية مع دولة الاحتلال. هذا التناقض الصارخ بين الشعارات والممارسات هو الذي جعل الاحتلال يشعر بأنه فوق المحاسبة.
أما الشعوب العربية والإسلامية، ورغم كل محاولات التعتيم والتطبيع، لا تزال تقاوم هذا الاعتياد المفروض. المشاهد التي تأتي من غزة تُشعل المظاهرات في العواصم، وتحيي وجدان الأمة الذي لا يزال يعتبر فلسطين جرحاً لا يندمل. الشعب الفلسطيني، رغم كل الظروف، يستمر في المقاومة، ليذكر العالم بأن هذه الأرض ليست للبيع، وأن الاحتلال لن يكون له مستقبل مهما بلغت قوته.
ورغم ذلك، فإن المسؤولية لا تقع فقط على عاتق الفلسطينيين. الأمة العربية والإسلامية، ومعها كل أحرار العالم، مطالبة بمواقف أكثر قوة ووضوحاً. القضية الفلسطينية ليست مجرد قضية إنسانية، بل هي رمز للنضال من أجل العدالة والكرامة. أي تهاون في نصرتها هو تواطؤ ضمني مع الاحتلال، ويشجع على استمرار الجرائم.
الإعلام العربي يتحمل مسؤولية خاصة في هذا السياق. بدلاً من الاكتفاء بنقل الأخبار، يجب أن يركز على كشف جرائم الاحتلال بطرق توصل الرسالة إلى كل بيت، في كل لغة. الإعلام هو السلاح الذي يمكن أن يغير السردية، ويعيد القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام العالمي، لكن هذا يتطلب وعياً وجهداً مستمراً.
ختاماً، العالم لم يعتد على مشاهد الموت والدمار في فلسطين، لكن هناك محاولات مستمرة لتطبيع هذه المشاهد وتحويلها إلى جزء من الخلفية اليومية التي لا تستدعي التحرك. هذه المحاولات لن تنجح إلا إذا سمحنا لها بذلك. فلسطين ستظل جرحاً في قلب الإنسانية، ومقاومة هذا الاعتياد تبدأ من الإصرار على إبقاء القضية حية في كل المنابر والميادين. الشعب الفلسطيني ليس رقماً، بل قصة صمود أسطوري، ولن يقبل أن يكون ضحية منسية في زحمة الصراعات الدولية.
الصحفي ….لؤي صوالحه نابلس…. فلسطين